همجية العصر الحديث
افتتاحية الأزمنة
الأربعاء، ٦ أبريل ٢٠٢٢
تتبُّع الحياة البشرية غدا من الصعوبة بمكان، وشاغلت أفرادها على مرّ العصور بما رافقها من حيوات دينية وسياسية واقتصادية وحروب فردية وجماعية قبلية وعشائرية، طائفية دينية وإثنية، إلى أن ظهرت الدول والأمم، وتناوبت عليها الظروف ذاتها، حيث يشير إلى ذلك ما هو أمامنا وخلفنا وحولنا من آثار وأطلال صامتة لا تنبس ببنت شفة، ومتحركات تعمل في كل الاتجاهات، لنجد أن علينا أن نستخرج منها ما يمكن أن يساعدنا على الاستمرار ضمن واقع تراه الأعين ممتلئاً بالآلام وصرير المنجزات وأصوات المدافع مع هدير الطائرات الذي يصم الآذان.
وقائع قد لا تغني المشهد، لكنها على الأقل شيء محسوس، ينطق بما فيه، وما يحرجك منها أسلم بكثير مما نخرج به عنها، كيف نفكر حينما نستعرض الماضي القريب والأبعد والبعيد، وقليلنا يقف بمهابة وخشوع ورقة وتأمل أمام جلال المنجزات السابقة واللاحقة، وسعياً خلف المنجزين متأملين ومتفكرين وطلباً للعلم والمعرفة التي يسخر منها الكثيرون، فإن كانت عبارة «العلم من أجل العلم»، فهي تصدق على أولئك المنجزين، وعلى الباحثين فيما تركوه من إنجاز، وهدفهم البحث من أجل الإضافة وبشكل أفضل ومؤثر.
الكثيرون من الناس ينجزون، وكأنهم من غير جنس الإنسان، أو أنهم من غير أقوام تفرقت أحسابها، فاستخدموا لغة التجهيل والقتل والتدمير والحروب، وهم الآن في عصرنا لا يردعهم رادع، ولا تحدهم حدود، هؤلاء الذين يشبهون ذاك الإنسان الخارج من الكهوف أو المغاور على أنه همجي قميء الهيئة، ونسوا أنه أفضلهم، وتناسوا الكيفية التي دخل بها إلى هذا الكهف أو تلك المغاور، وهو إما هرب من سلطة الطبيعة، وإما من همجية الحروب وأدواتها وعدوان البشر بعضهم على بعض نتاج مآسي الحروب من الأفراد على الأفراد أو من الدول على الدول، وبالتدقيق نجد أن دعوات أهل الأديان ومطامع أهل الأوطان ومخلفات الأعصر الخالية وأطلال مخلفات الإنسان من البشر الطاغية مستمرة في عصرنا المعيش، وتنتقل جيناتها من جيل إلى جيل، لتكون الهمجية شعاراً من واقعنا، يرتدي الثوب الجميل وتحت الأطلال العبثية التي لا تستر وراءها كحال ماعون البيت وأداة الحرب وآمنة المعبد التي لا تخدع رائيها عن صاحبها.
الإنسان يصنع فرصته عندما يتكلم وبمساعدة الآخرين، فإذا أضاعها لجأ إلى الروحي كي يعطيه أو يحميه أو يعزز وجودها، وإذا حصل عليها يتم توصيفه من تلازم حديثه وأدواته ونظم طرحه واستخدامه، والإنسان لا يحيا على الخبز فقط، بل يحتاج إلى أشياء كثيرة؛ المثل العليا والعقائد السائرة، وإذا انحرف عنها فقد أدبياته وانتماءه، ودبّ الانحلال فيه إلى أن يتلاشى.
عاش الإنسان القديم تحت مظلة السلطات الطبيعية التي لا ترحم والوحوش الكاسرة التي لا تشبع، وتعامل باستسلام مع الظلام الدامس الذي أدلج الإنسان خلاله أزماناً، حتى خرج إلى ما يشبه النور أو شبه الظل بشكل أصح، مما أطلق عليه وحشية الأزمان القديمة، التي قضى على وحشيتها بعلمية فكره الحديث وأدواته، وسيطر عليها، لكنه لم يعد بعدها إلى سكينته، بل لم يعد له عدو إلا نفسه ومثيله من الإنسان، وكل ما يطوره الآن من أدوات ما هي إلا غابات يحمي بها نفسه أولاً، ويقتل بها إنسانه المقابل ثانياً، أو يستعد للانقضاض عليه، والسبب الماء والهواء والغذاء، فإلى أين يتقدم الإنسان؟ إلى الأمام أم إلى الوراء؟ لأن الإنسان يرث عن سابقيه كل شيء، وقدراته العقلية المتطورة إما أن تأخذ منها المفيد فتتطور نحو الأفضل، وإما أن تسيطر على بعضها، أو أن تسمح لها بالانفلات.
همجية العصر الحديث تتجلى على كامل المشهد ضمن السمعية والبصرية والحركية، ما الفرق بين إنسان الحداثة والإنسان القديم؟ ورغم ما وصل إليه من حداثة، فما زال يسرق ويقتل ويدمر وينعت بعضه بعضاً بالقاتل والمجرم والجزار والوحش والحيوان والاعتداء، ما يرخي بظلاله ويتجلى على المشهد، الصغير يعتدي على الكبير بعد أن يتقوى به، والكبير يعتدي على الصغير، والكبير بفضل القوى التي يتملكها يعمل كل ما بوسعه للسيطرة، فإما أن يكون تابعاً له، وإما أن يقضي عليه المشهد ذاته، والفارق أنه قضى على الحيوانات، وكما أسلفت الكاسرة منها بقواه والناعمة بأسرها، ويأكلها ليعود في عصرنا للقضاء على جنسه من الإنسان.
كيف سيتخلص هذا الإنسان الحديث من همجيته؟ أدعوكم للتأمل والتفكر واجتراح الحلول.
د. نبيل طعمة